قد يحتفل كل حزب أو تنظيم أو جماعة بالذكرى الأولى لانطلاقته أو تأسيسه أو وضع البذرة الأولى في نواة تكوينه الاجتماعي بالطريقة التي يعبر فيها عن فرحه أو رمزية هذه الذكرى بالنسبة له .
أما انطلاقة حركة فتح فهي انطلاقة تتجاوز كل المعايير والقيم الحزبية أو التنظيمية هي انطلاقة تتجسد في الفكر الجمعي الوطني الفلسطيني للكل الوطني بمعان الانبعاث والنهوض والتحول من شعب كان يٌكتب له يايادي القهر والتآمر والتواطؤ قدر بان يشطب من جغرافيا و ديموغرافية الوجود الإنساني والتاريخ البشري ليتحول من شعب منغرس في أرضه صاحب هوية وطنية راسخة إلى مجرد جماعات بشرية تهيم في الشتات والمنافي و مخيمات اللجؤ بلا كينونة سياسية ولا مستقبل بعد أن يكون قد شطب تاريخها و تحول وجودها إلى وجود عابر على هذا التاريخ والأرض .
فكانت الانطلاقة في الفاتح من يناير 1965 ليس صدفة أو حدث عابر بل تعبير أصيل عن حالة الرفض والتحدي والمقاومة لهذا القدر وخروج عن المألوف الفلسطيني في ذاك الوقت والذي لم يخرج عن المسارات التي وضعت لهذا الشعب بحيث لم يتجاوز الموقف الفلسطيني في ذاك الوقت الانغماس في التنظير الفلسفي السفسطائي للوصول لتوصيف حالة الشعب الفلسطيني أو التسويغ النظري والفكري للعجز عن تحقيق خطوات جديدة في طريق إخراج هذا الشعب من حالة الضياع والتشرد تحت حجج واهية بالإعداد والتجهيز وعدم نضوج الظرف الموضوعي وغيرها من العبارات الفلسفية الجوفاء .
فكانت الانطلاقة صوت الجماهير الباحثة عن الخلاص من هذا القدر صوت من وجد أخيرا طريق الخلاص والبشارة بالنصر رغم حلكة الظلام وقسوة الواقع ، كانت الانطلاقة فجر جديد لشعب تمرد على كل أشكال الوصاية والتبعية والاحتواء .
ومهما قمنا بتوصيف الانطلاقة و تأصيلها تاريخياً و فكرياً يظل المعنى الأساسي في الانطلاقة هو رمزية التحدي والتمرد على الواقع الظالم وخلال تجربتي المتواضعة في هذه الحركة العملاقة بعطاءات وتضحيات رجالها عشت ما يقارب 41 ذكرى للانطلاقة كل مرة بشكل آخر.
ففي طفولتي كان 1/1 بالنسبة لي هي حكايات الأب والجد والعم والخال عن رجال كانوا يوصفوا بتقدير يصل لدرجة التقديس وزرعت في مخيلتي الطفولية رموز لرجال موشحين بالكوفية ارتبطت أسماؤهم بفلسطين والتضحية والاحتلال كانت تنطق أسماؤهم همساً عند ذكرها فعيون الاحتلال وآذانه لا يستطيع أن يقف أمامها سقف القرميد المنخفض و لا شباك الصفيح المخرم ،أدركت حينها بان الحديث عن هؤلاء الرجال و تلك الانطلاقة هو في حد ذاته تحدى و تضحية .
وأنا فتى عشت الانطلاقة في لحظات الاستنفار التي كان يفرضها رجل المخابرات الإسرائيلي أبوهاني أو أبو زيد أو أبو موسى...إلخ أسبوع يسبق هذه الذكرى يعتقلوا كوادر الحركة وأبنائها ويوجهوا تبليغات حضور لكل من لديهم حوله معلومات كناشط فتحاوي أو وطني ، لحظات استنفار كانت حواجز تفتيش على طرق ذهابنا للمدرسة تفتش وتعربد تحاول أن تهين ولكنهم لم يقتلوا الانطلاقة في قلوبنا كان القمع يزيدنا تحدى وإصرار لدرجة إننا كان نتفاخر أمام بعضنا من نال أكثر من قمع الجنود ، هذا التحدي كنا نعبر عنه بكل عزة و تفاخر بالتسلل تحت جنح الظلام لنكتب عبارة "عاشت الانطلاقة " أو فتح مرت من هنا " أو ببذل محاولات عديدة حتى نستطيع تعليق علم فلسطين فوق أعمدة الضغط العالي ،هذا الفخر بالتحدي كنا نعتز به ونحن نتلذذ نشوة الانتصار ونحن نرى الغيظ في عيون جيش الاحتلال وهو يحاول إنزال العلم أو يفرض على المواطنين إزالة الشعارات عن الجدران .
وبتقدم العمر عشت الانتفاضة بأشكال متعددة ولكنها لم تخرج عن جوهرها ومعان التحدي الكامنة فيها ، سجن النقب قسم ألف مردوان 4 عام 1988م جسدنا التحدي للاحتلال ونحن تحت سياطه و فوهات بنادقه و قنابل الغاز حسب البرنامج المعد للاحتفال بذكرى الانطلاقة جلسنا في صباح الفاتح من يناير ورسمنا بأجسامنا تشكيل لعلم فلسطين في وسط ساحة المعتقل وأعلنا بذلك هذه البقعة من الوطن بقعة محررة يحدد مساحتها لحمنا ودمنا وقلوبنا .
الجندي القابع فوق برجه ينظر بملل وروتين نحو الأقسام هاله ما رأي عندما أدرك ما ذا حفرنا على الأرض بأجسامنا فدبت في جسمه رعشة امتدت لكل الجنود في السجن وأعلنوا حالة الطوارئ واستنفروا جنودهم و بنادقهم وغازهم وكلابهم وأخذوا يضربوا بجدران السجن ولكن لم نهتز لأننا نعيش لحظات التحدي في عبق ذكرى الانطلاقة واستمروا بغضبهم وتهديدهم وقمعهم و استمررنا بحفلنا بانطلاقتنا حتى انتهى الموعد المحدد لهذا التشكيل فأنصرف كل منا لحال سبيله وهو يعيش لحظات الانتشاء بالنصر والاعتزاز والفخر .
جيش الاحتلال وإدارة السجن فرغت غضبها بوضع عدد كبير من الأخوة في الزنازين لكسر روح التحدي لدينا ، فكان ردنا في اليوم التالي التحدي مزيداً من التحدي أعلنا الإضراب عن الطعام ،حتى خرج الأخوة من الزنازين .
فالانطلاقة فكل زمان و مكان تجسد ليس للفتحاوي بل لكل فلسطيني وطني شريف رمز للتحدي والتمرد على الظلم والقهر ، كمكون نفسي ذاتي وجمعي يؤسس لحالة الحراك الثوري لهذا الشعب العظيم الذي وضع أمام ناظريه هدف واحد لا حياد عنه وهو تحرير الأرض من المحتل وتحقيق بشارة العمار ياسر بأن يرفع شبل أو زهرة علم فلسطين فوق مآذن كنائس القدس إن شاء الله